فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

الثانية قوله تعالى: {وَجَزاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}.
قال العلماء: جعل الله المؤمنين صِنفين؛ صنف يعفون عن الظالم فبدأ بذكرهم في قوله: {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ}.
وصنف ينتصرون من ظالمهم.
ثم بين حدّ الانتصار بقوله: {وَجَزاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} فينتصر ممن ظلمه من غير أن يعتدي.
قال مقاتل وهشام بن حُجَير: هذا في المجروح ينتقم من الجارح بالقصاص دون غيره من سب أو شتم.
وقاله الشافعي وأبو حنيفة وسفيان.
قال سفيان: وكان ابن شُبْرُمَة يقول: ليس بمكة مثل هشام.
وتأوّل الشافعي في هذه الآية أن للإنسان أن يأخذ من مال من خانه مثل ما خانه من غير علمه؛ واستشهد في ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند زوج أبي سفيان: «خذي من ماله ما يكفيك وولدك» فأجاز لها أخذ ذلك بغير إذنه.
وقد مضى الكلام في هذا مستوفى في (البقرة).
وقال ابن أبي نجيح: إنه محمول على المقابلة في الجراح.
وإذا قال: أخزاه الله أو لعنه الله أن يقول مثله.
ولا يقابل القذف بقذف ولا الكذب بكذب.
وقال السُّدِّي: إنما مدح الله من انتصر ممن بغى عليه من غير اعتداء بالزيادة على مقدار ما فعل به؛ يعني كما كانت العرب تفعله.
وسُمي الجزاء سيئةً لأنه في مقابلتها؛ فالأوّل ساء هذا في مال أو بدن، وهذا الاقتصاص يسوءه بمثل ذلك أيضًا؛ وقد مضى هذا كله في (البقرة) مستوفى.
الثالثة قوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ} قال ابن عباس: من ترك القصاص وأصلح بينه وبين الظالم بالعفو {فَأَجْرُهُ عَلَى الله} أي إن الله يأجره على ذلك.
قال مقاتل: فكان العفو من الأعمال الصالحة.
وقد مضى في (آل عمران) في هذا ما فيه كفاية، والحمد لله.
وذكر أبو نعيم الحافظ عن علي بن الحسين رضي الله عنهم قال: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أيكم أهل الفضل؟ فيقوم ناس من الناس؛ فيقال: انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة؛ فيقولون إلى أين؟ فيقولون إلى الجنة؛ قالوا قبل الحساب؟ قالوا نعم قالوا من أنتم؟ قالوا أهل الفضل؛ قالوا وما كان فضلكم؟ قالوا كنا إذا جُهل علينا حَلِمنا وإذا ظُلمنا صَبَرْنَا وإذا سِيء إلينا عفونا؛ قالوا ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. روذكر الحديث.
{إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين} أي مَن بدأ بالظلم؛ قاله سعيد بن جبير.
وقيل: لا يحبّ مَن يتعدى في الاقتصاص ويجاوز الحد؛ قاله ابن عيسى.
الرابعة قوله تعالى: {وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ} أي المسلم إذا انتصر من الكافر فلا سبيل إلى لَوْمه، بل يُحمد على ذلك مع الكافر.
ولا لوم إن انتصر الظالم من المسلم؛ فالانتصار من الكافر حتم، ومن المسلم مباح، والعفو مندوب.
الخامسة في قوله تعالى: {وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ} دليلٌ على أن له أن يستوفي ذلك بنفسه.
وهذا ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها أن يكون قصاصًا في بدن يستحقه آدمي، فلا حرج عليه إن استوفاه من غير عدوان وثبت حقه عند الحكام، لكن يزجره الإمام في تفوته بالقصاص لما فيه من الجرأة على سفك الدم.
وإن كان حقه غير ثابت عند الحاكم فليس عليه فيما بينه وبين الله حرج، وهو في الظاهر مطالب وبفعله مؤاخذ ومعاقب.
القسم الثاني أن يكون حدّ الله تعالى لا حق لآدمي فيه كحدّ الزنى وقطع السرقة؛ فإن لم يثبت ذلك عند حاكم أخذ به وعوقب عليه، وإن ثبت عند حاكم نُظر، فإن كان قطعًا في سرقة سقط به الحدّ لزوال العضو المستحق قطعه، ولم يجب عليه في ذلك حق لأن التعزير أدب، وإن كان جلدًا لم يسقط به الحدّ لتعدّيه مع بقاء محله فكان مأخوذًا بحكمه.
القسم الثالث أن يكون حقًا في مال؛ فيجوز لصاحبه أن يغالب على حقه حتى يصل إليه إن كان ممن هو عالم به، وإن كان غير عالم نُظر، فإن أمكنه الوصول إليه عند المطالبة لم يكن له الاستسرار بأخذه.
وإن كان لا يصل إليه بالمطالبة لجحود من هو عليه من عدم بيّنة تشهد له ففي جواز استسراره بأخذه مذهبان: أحدهما جوازه؛ وهو قول مالك والشافعي.
الثاني المنع؛ وهو قول أبي حنيفة.
السادسة قوله تعالى: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس} أي بعدوانهم عليهم؛ في قول أكثر العلماء.
وقال ابن جريج: أي يظلمونهم بالشرك المخالف لدينهم.
{وَيَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} أي في النفوس والأموال؛ في قول الأكثرين.
وقال مقاتل: بَغْيُهم عَملُهم بالمعاصي.
وقال أبو مالك: هو ما يرجوه كفار قريش أن يكون بمكة غير الإسلام دينًا.
وعلى هذا الحدّ قال ابن زيد: إن هذا كله منسوخ بالجهاد، وإن هذا للمشركين خاصة.
وقول قتادة: إنه عام؛ وكذا يدل ظاهر الكلام. وقد بيناه والحمد لله.
السابعة قال ابن العربي: هذه الآية في مقابلة الآية المتقدّمة في (براءة) وهي قوله: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} [التوبة: 19]؛ فكما نفى الله السبيل عمن أحسن فكذلك نفاها على من ظلم؛ واستوفى بيان القسمين.
الثامنة واختلف علماؤنا في السلطان يضع على أهل بلد مالًا معلومًا يأخذهم به ويؤدّونه على قدر أموالهم؛ هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل، وهو إذا تخلص أخذ سائر أهل البلد بتمام ما جعل عليهم.
فقيل لا؛ وهو قول سحنون من علمائنا.
وقيل: نعم، له ذلك إن قدر على الخلاص؛ وإليه ذهب أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي ثم المالكي.
قال: ويدل عليه قول مالك في الساعي يأخذ من غنم أحد الخلطاء شاة وليس في جميعها نصاب إنها مظلمة على من أخذت له لا يرجع على أصحابه بشيء.
قال: ولست آخذ بما روِي عن سحنون؛ لأن الظلم لا أسوة فيه، ولا يلزم أحد أن يولج نفسه في ظلم مخافة أن يضاعف الظلم على غيره، والله سبحانه يقول: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس}.
التاسعة واختلف العلماء في التحليل؛ فكان ابن المُسَيِّب لا يحلل أحدًا من عِرض ولا مال.
وكان سليمان بن يَسار ومحمد بن سِيرين يحللان من العِرض والمال.
ورأى مالك التحليل من المال دون العرض.
روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك وسئل عن قول سعيد بن المسيب (لا أحلل أحدًا) فقال: ذلك يختلف؛ فقلت له يا أبا عبد الله، الرجلُ يسلف الرجلَ فيهلك ولا وفاء له؟ قال: أرى أن يحلله وهو أفضل عندي؛ فإن الله تعالى يقول: {الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18].
فقيل له: الرجل يظلم الرجل؟ فقال: لا أرى ذلك، هو عندي مخالف للأوّل؛ يقول الله تعالى: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس} ويقول تعالى: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} فلا أرى أن يجعله من ظلمه في حِلّ.
قال ابن العربي: فصار في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها لا يحلّله بحالٍ؛ قاله سعيد بن المسيّب.
الثاني يحلّله؛ قاله محمد بن سيرين.
الثالث إن كان مالًا حلّله وإن كان ظلمًا لم يحلله؛ وهو قول مالك.
وجه الأوّل ألاّ يحلل ما حرّم الله؛ فيكون كالتبديل لحكم الله.
ووجه الثاني أنه حقه فله أن يسقط كما يسقط دمَه وعرْضه.
ووجه الثالث الذي اختاره مالك هو أن الرجل إذا غلب على أداء حقك فمن الرفق به أن يتحلله، وإن كان ظالمًا فمن الحق ألا تتركه لئلا تغتر الظلمة ويسترسلوا في أفعالهم القبيحة.
وفي صحيح مسلم حديثُ أبي اليَسَر الطويل وفيه «أنه قال لغريمه: أُخرج إليّ، فقد علمت أين أنت؛ فخرج؛ فقال: ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال: أنا والله أحدّثك ثم لا أكذبك، خشيت والله أن أحدّثك فأكذبك، وأن أعِدك فأخلِفك، وكنتَ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنتُ والله مُعْسِرًا، قال قلت: آللّهِ؟ قال اللّهِ؛ قال: فأتى بصحيفة فمحاها فقال: إن وجدتَ قضاء فاقض، وإلا فأنت في حِلّ...» وذكر الحديث.
قال ابن العربي: وهذا في الحي الذي يرجى له الأداء لسلامة الذمة ورجاء التَّمَحُّل، فكيف بالميت الذي لا محالة له ولا ذِمّة معه.
العاشرة قال بعض العلماء: إن مَن ظُلم وأخِذ له مال فإنما له ثواب ما احتبس عنه إلى موته، ثم يرجع الثواب إلى ورثته، ثم كذلك إلى آخرهم؛ لأن المال يصير بعده للوارث.
قال أبو جعفر الداودي المالكي: هذا صحيح في النظر؛ وعلى هذا القول إن مات الظالم قبل مَن ظلمه ولم يترك شيئًا أو ترك ما لم يعلم وارثه فيه بظلم لم تنتقل تباعة المظلوم إلى ورثة الظالم؛ لأنه لم يبقَ للظالم ما يستوجبه ورثة المظلوم.
الحادية عشرة قوله تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ} أي صبر على الأذى و{غفر} أي ترك الانتصار لوجه الله تعالى؛ وهذا فيمن ظلمه مسلم.
ويحكى أن رجلًا سبّ رجلًا في مجلس الحسن رحمه الله فكان المسبوب يكظِم ويعرق فيمسح العرق، ثم قام فتلا هذه الآية؛ فقال الحسن: عقلها والله! وفهمها إذ ضيّعها الجاهلون.
وبالجملة العفو مندوب إليه، ثم قد ينعكس الأمر في بعض الأحوال فيرجع ترك العفو مندوبًا إليه كما تقدّم؛ وذلك إذا احتيج إلى كفّ زيادة البغي وقطع مادّة الأذى، وعن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل عليه، وهو «أن زينب أسمعت عائشة رضي الله عنهما بحضرته فكان ينهاها فلا تنتهي، فقال لعائشة: دونِك فانتصري» خرجه مسلم في صحيحه بمعناه.
وقيل: {صَبَر} عن المعاصي وستر على المساوىء.
{إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} أي من عزائم الله التي أمر بها.
وقيل من عزائم الصواب التي وفق لها.
وذكر الكلبي والفراء أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه مع ثلاث آيات قبلها، وقد شتمه بعض الأنصار فردّ عليه ثم أمسك.
وهي المدنيات من هذه السورة.
وقيل: هذه الآيات في المشركين، وكان هذا في ابتداء الإسلام قبل الأمر بالقتال ثم نسختها آية القتال؛ وهو قول ابن زيد، وقد تقدّم.
وفي تفسير ابن عباس {وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ} يريد حمزة بن عبد المطلب وعبيدة وعليًّا وجميع المهاجرين رضوان الله عليهم.
{فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ} يريد حمزة بن عبد المطلب وعبيدة وعليًّا رضوان الله عليهم أجمعين.
{إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس} يريد عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأبا جهل والأسود، وكل من قاتل من المشركين يوم بدر.
{وَيَبْغُونَ فِي الأرض} يريد بالظلم والكفر.
{أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يريد وجيع.
{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ} يريد أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح ومُصعب بن عُمير وجميع أهل بدر رضوان الله عليهم أجمعين.
{إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} حيث قبلوا الفِداء وصبروا على الأذى. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَجَزاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا}.
بيان لما جعل للمنتصر وتسمية الفعلة الثانية وهي الجزاء سيئة قيل للمشاكلة، وقال جار الله: تسمية كلتا الفعلتين سيئة لأنها تسوء من تنزل به، وفيه رعاية لحقيقة اللفظ واشارة إلى أن الانتصار مع كونه محمودًا إنما يحمد بشرط رعاية المماثلة وهي عسرة ففي مساقها حث على العفو من طريق الاحتياط، وقوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا} أي عن المسيء إليه {وَأَصْلَحَ} ما بينه وبين من يعاديه بالعفو والإغضاء عما صدر منه {فَأَجْرُهُ عَلَى الله} فيجزيه جل وعلا أعظم الجزاء، تصريح بما لوح إليه ذلك من الحث وتنبيه على أنه وإن كان سلوكًا لطريق الاحتياط يتضمن مع ذلك إصلاح ذات البين المحمود حالًا ومالا ليكون زيادة تحريض عليه، وإبهام الأجر وجعله حقا على العظيم الكريم جل شأنه الدال على عظمه زيادة في الترغيب، وجيء بالفاء ليفرعه عن السابق أي إذا كان سلوك الانتصار غير مأمون العثار فمن عفا وأصلح فهو سالك الطريق المأمون العثار المحمود في الدارين، وقوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين} المتجاوزين الحد في الانتقام، تتميم لذلك المعنى وتصريح بما ضمن من عسر رعاية طريق المماثلة وأنه قلما تخلو عن الاعتداء والتجاوز لا سيما في حال الحرد والتهاب الحمية فيكون دخولًا في زمرة من لا يحبه الله تعالى، ولا حاجة على هذا المعنى إلى جعل {فَمَنْ عَفَا} الخ اعتراضًا، ثم لو كان كذلك بأن يكون هذا متعلقًا بجزاء سيئة سيئة مثلها على أنه تعليل لما يفهم منه فالفاء غير مانعة عنه كما توهم، وأدخل غير واحد المبتدئين بالسيئة في الظالمين.
{وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ} بعد ما ظلم بالبناء للمجهول، وقرئ به فالمصدر مضاف لمفعوله أو هو مصدر المبني للمفعول واللام للقسم، وجوز أن تكون لام الابتداء جيء بها للتوكيد و{مِنْ} شرطية أو موصولة وحمل انتصر على لفظها وحمل {فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ} أي للمعاقب ولا للعاتب والعائب على معناها، والجملة عطف على {من عفا} [الشورى: 40] وجيء بها للتصريح بأن ما حض عليه إنما حض عليه إرشادًا إلى الأصلح في الأغلب لا أن المنتصر عليه سبيل بوجه حالًا أو مآلا، ولا يهام الحض خلاف ما تضمنته من نفي السبيل على العموم صدرت باللام.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس} تعيين لمن عليه السبيل بعد نفي ذلك عن المنتصرين، والمراد بالذين يظلمون الناس من يبدؤنهم بالظلم أو يزيدون في الانتقام ويتجاوزون ما حدلهم، وفسر ذلك بعضهم بالذين يفعلون بهم ما لا يستحقونه وهو أعم.